إذا كان مفهوم "الإلحاد" هو إنكار وجود الله سبحانه، كما هو مذهب الماديين قديما وحديثا، ومنهم الشيوعيون دعاة المادية التاريخية، فإن العلمانية ـ حسب مفهومها ـ لا تعني بالضرورة الإلحاد.
قد يوجد من "العلمانيين" من يجحد وجود الله تعالى، أو يجحد رسالاته ووحيه، أو يجحد لقاءه وحسابه في الآخرة، ولكن هذا ليس من اللوازم الذاتية لفكرة العلمانية، كما نشأت في الغرب، فإن الذين نادوا بها، لم يكونوا ملاحدة ينكرون وجود الله، بل هم ينكرون تسلط الكنيسة على شئون العلم والحياة فحسب، فكل ما يعنيهم هو عزل الدين ـ ممثلا في رجال وكنيسته ـ عن سياسة الدولة، وتوجيه أمورها، سياسية كانت، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو ثقافية، أو تربوية.
ولكن يجب أن نعترف بأن ثمة فرقا واضحا بين الإسلام، والمسيحية في هذا الموضوع.
فالمسيحي يمكن أن يقبل العلمانية، حاكما أو محكوما، ويبقى مع هذا مسيحيا، غير مخدوش ولا مقهور في عقيدته ولا شريعته.
فالعلمانية لا تمنعه أن يذهب إلى الكنيسة يوم الأحد من كل أسبوع، وأن يحتفل بأعياد ميلاد المسيح من كل عام، وأن يمارس شعائره الدينية الشخصية متى شاء.
والمسيحية نفسها لا تطالبه بشيء أكثر من ذلك، فليس فيها شريعة تلزمه الحكم بها أو الاحتكام إليها، وتصف بالكفر والظلم والفسق من أعرض عنها.
ولم تجئ المسيحية نظاما كاملا للحياة، يصبغها بصبغته، ويقودها بتشريعاته ووصاياه، وأوامره ونواهيه، في مختلف شئون الفرد والأسرة، والمجتمع والدولة والعلاقات الدولية.
بل إن المسيحية في إنجيلها نفسه، كما أشرنا من قبل، تقبل ترك شئون السياسة للحاكمين الدنيويين، بعيدا عن توجيه الدين وهداية الله، كما هو ظاهر المقولة، التي ذكرها الإنجيل عن المسيح (عليه السلام): "دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"!
فإذا نظرنا إلى العلمانية مع الإسلام وجدنا الأمر يختلف تمام الاختلاف، ذلك لأن الإسلام جاء نظاما كاملا للحياة، لا يقبل أن تشاركه أية "أيديولوجية" أخرى، في توجيهها، فهو الذي يحدد أهدافها، ويضع أصول مناهجها، ويعد بالثواب أو العقاب، لمن عمل بها، أو انحرف عنها.
جاء الإسلام عقيدة وشريعة، فالعقيدة هي الأساس، والشريعة المنهاج، فهو عقيدة، تنبثق منها شريعة يقوم عليها مجتمع.
وهي شريعة ربانية المصدر، منزلة في أصولها من عند الله، والحكم بها والاحتكام إليها، من لوازم الإيمان، ودلائل الالتزام بالإسلام.
ولهذا يكون المسلم، الذي يقبل العلمانية ـ مهما تكن علمانية معتدلة متساهلة ـ في جبهة المعارضة للإسلام، وخصوصا فيما يتعلق بتحكيم الشرعية التي جاء بها كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن هذا المسلم، الذي يقبل العلمانية، أو يدعو إليها ـ وإن لم يكن ملحدا، يجحد وجود الله، وينكر الوحي، والدار الآخرة ـ قد تنتهي به علمانيته إلى الكفر البواح والعياذ بالله، إذا أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، مثل تحريم الربا، أو الزنى، أو شرب الخمر، أو فرضية الزكاة، أو إقامة الحدود، أو غير ذلك من القطعيات، التي أجمعت عليها الأمة، وثبتت بالتواتر اليقيني، الذي لا ريب فيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق